فصل: فصل في ذكر آيات الأحكام في السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفوائد:

قال القرطبي: ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شرّ فيها حتى مطلع الفجر وقد شاء اللّه إخفاءها أن يحيي مريدها الليالي الكثيرة فتكثر عبادته ويتضاعف ثوابه وأن لا يتكل الناس عند إظهارها على إصابة الفضل فيها فيفرطوا في غيرها.
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» و«من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه البخاري ومسلم وقوله: «إيمانا واحتسابا» أي نيّة وعزيمة وهو أن يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه طيبة به نفسه غير كاره له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب فالاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه اللّه احتسبه لأن له حينئذ أن يعتدّ بعمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتدّ به.
وقال البغوي: قوله: «احتسابا»: أي طلبا لوجه اللّه تعالى وثوابه ويقال فلان يحتسب الأخبار ويتحسبها أي يتطلبها. هذا ومن أراد التوسّع فعليه بالمطولات ففيها من أخبار هذه الليلة وفضائلها ما تضيق به الصحائف والأجلاد. اهـ.

.قال أبو البقاء العكبري:

سورة القدر:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الهاء في {أنزلناه} للقرآن العظيم، ولم يجر له ذكر هنا.
قوله تعالى: {والروح} يجوز أن يكون مبتدأ، و{فيها} الخبر، وأن يكون معطوفا على الفاعل، وفيها ظرف أو حال.
قوله تعالى: {بإذن ربهم} يجوز أن تتعلق الباء بتنزل، وأن يكون حالا، قوله تعالى: {سلام هي} في سلام وجهان: أحدهما هي بمعنى مسلمة: أي تسلم الملائكة على المؤمنين، أو يسلم بعضهم على بعض.
والثانى هي بمعنى سلامة أو تسليم، فعلى الأول {هي} مبتدأ، و{سلام} خبر مقدم، و{حتى} متعلقة بسلام: أي الملائكة مسلمة إلى مطلع الفجر، ويجوز أن يرتفع {هي} بـ: {سلام} على قول الأخفش، وعلى القول الثاني ليلة القدر ذات تسليم: أي ذات سلامة إلى طلوع الفجر، وفيه التقديران الأولان، ويجوز أن يتعلق {حتى} بـ: {تنزل}، و{مطلع الفجر} بكسر اللام وفتحها لغتان وقيل الفتح أقيس. اهـ.

.قال حميدان دعاس:

سورة القدر:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.[سورة القدر: آية 1]

{إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي ليلة القدر (1)}
{إِنَّا} إن واسمها {أَنْزَلْناهُ} ماض وفاعله ومفعوله والجملة الفعلية خبر إن والجملة الاسمية ابتدائية لا محل لها {فِي لَيْلَةِ} متعلقان بالفعل {الْقَدْرِ} مضاف إليه.

.[سورة القدر: آية 2]

{وَما أَدْراكَ ما ليلة القدر (2)}
{وَما} الواو حرف استئناف {وَما} اسم استفهام مبتدأ {أَدْراكَ} ماض ومفعوله والفاعل مستتر والجملة خبر ما والجملة الاسمية مستأنفة {ما لَيْلَةُ} مبتدأ وخبره {الْقَدْرِ} مضاف إليه والجملة الاسمية سدت مسد مفعول {أدراك} الثاني.

.[سورة القدر: آية 3]

{ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر (3)}
{ليلة القدر} مبتدأ مضاف إلى القدر {خَيْرٌ} خبر والجملة مستأنفة لا محل لها {مِنْ أَلْفِ} متعلقان بـ: {خير} {شَهْرٍ} مضاف إليه.

.[سورة القدر: آية 4]

{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أمر (4)}
{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} مضارع وفاعله والجملة مستأنفة {وَالرُّوحُ} معطوف على الملائكة {فِيها} متعلقان بالفعل {بِإِذْنِ} متعلقان بالفعل أيضا {رَبِّهِمْ} مضاف إليه {مِنْ كُلِّ} متعلقان بالفعل {أمر} مضاف إليه.

.[سورة القدر: آية 5]

{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر (5)}
{سَلامٌ هِيَ} خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة {حَتَّى مَطْلَعِ} متعلقان بـ: {سلام} {الفجر} مضاف إليه. اهـ.

.فصل في تخريج الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:

قال الزيلعي:
سورة القدر ذكر فِيهَا حديثان:
1519- الحَدِيث الأول:
رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل لبس السِّلَاح فِي سَبِيل الله ألف شهر فَعجب الْمُؤْمِنُونَ من ذَلِك وتقاصرت إِلَيْهِم أَعْمَالهم فأعطوا لَيْلَة خيرا من مُدَّة ذَلِك الْغَازِي يَعْنِي ليلة القدر.
قلت رَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم والثعلبي فِي تفسيريهما والواحدي فِي أَسبَاب النُّزُول من حَدِيث مُسلم بن خَالِد الزنْجِي عَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل لبس السِّلَاح فِي سَبِيل الله تَعَالَى ألف شهر قال فَعجب الْمُسلمُونَ من ذَلِك فَأنزل الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر وَمَا أَدْرَاك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر} الَّذِي لبس السِّلَاح فِيهَا فِي سَبِيل الله تَعَالَى انتهى وَهُوَ مُرْسل.
1520- الحَدِيث الثاني:
عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سُورَة الْقدر أعطي من الْأجر كمن صَامَ رَمَضَان وَأَحْيَا ليلة القدر»
قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ فِي تَفْسِيره من حَدِيث عبد الله بن روح الْمَدَائِنِي ثَنَا شَبابَة بن سوار ثَنَا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عَن زر بن حُبَيْش.
عَن أبي بن كَعْب قال قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم... فَذكره، وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره بسنديه فِي آل عمرَان، وَرَوَاهُ الواحدي فِي الْوَسِيط بِسَنَدِهِ فِي يُونُس. اهـ.

.فصل في ذكر آيات الأحكام في السورة الكريمة:

قال إلكيا هراسي:
سورة القدر:
قوله تعالى: {ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر}، الآية/ 3:
ليس فيها ليلة القدر، وإنما فضيلة الزمان بكثرة ما يقع فيه من الفضائل، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر.
واختلفت الروايات عن النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة القدر، ولا دليل في الآية على التعيين، وليس في الشرع قاطع على التعيين، ولذلك إذا قال لامرأته أنت طالق ليلة القدر لا تطلق حتى يمضي حول، لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت، فلا يتيقن وقوع الطلاق إلا بمضي حول. اهـ.

.من مجازات القرآن في السورة الكريمة:

قال ابن المثنى:
سورة القدر (97):
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{مِنْ كُلِّ أمر سَلامٌ} (4- 5) من كل ملك وتفسير الكلبي: وقرأ ابن عباس {من كل امرئ سلام} أي من كل ملك، قال: ينزل جبريل صلى اللّه عليه فيجيء كل مؤمن ومؤمنة ومن قرأ {من أمر} انقطع الكلام: ينزلون بكل أمر ثم بدأ فقال: {سَلامٌ هِيَ}. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة القدر:
بدأ نزول القرآن في ليلة مشهودة يعرفها المسلمون بليلة القدر، أى الشرف والرفعة. وقد اختلفوا في تحديد هذه الليلة، والجمهور على أنها تقع في العشر الأواخر من شهر رمضان. ولما كان طلوع الهلال وأفوله متفاوتا طول السنة القمرية، فمن الصعب القول بأنها تلزم وقتا واحدًا، وعلى من يحبون قيام الليلة أن يتهجدوا الثلث الأخير أو النصف الأخير من الشهر الطيب! ولاشك أن نزول! القرآن مناسبة جديرة بالحفاوة والعبادة والدعاء. فإن القرآن من كلام الله الذي اختتم به الوحى، وتمت به النعمة، ودخل به العرب التاريخ بعدما حملوا رسالته وصانوها من التحريف. وغزارة الخير النازل في هذه الليلة يبدو في قوله تعالى: {وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر}. وصدق القائل: رب عمر طال بالرفعة لا بالسنوات وقطيرات زمان ملأت كأس حياة {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر}. وهذه العبارة كقوله جل شأنه في سورة الدخان {فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين}. إن القرآن حوى كل ما يحتاج إليه النشاط الإنسانى من سداد وهدى. ولا مقنع للعقل إلا في آياته، ولا مصدر لليقين إلا في بيناته. وإذا كانت الأشياء تتميز بأضدادها، فإن أى قارئ يستطيع الموازنة بين القرآن وبين كل ما انتسب من كتب إلى السماء، ثم ليقل رأيه: أيها أعظم دلالة على الله وتأسيسا لتقواه! والليلة التي نزل فيها القرآن ليلة سلام، والسلام غايتنا نحن المسلمين، بيد أننا نتساءل ما الموقف عندما يقول المشركون للموحدين لا مكان لكم هنا؟! {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}. لابد من العدل قبل السلام. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة القدر:
قال الخطابي: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن، ووضعوا سورة القدر عقب العلق، استدلوا بذلك على أن المراد بهاء الكناية في قوله: {إِنّا أَنزلناهُ في ليلة القدر} الإشارة إلى قوله (اقرأ) قال القاضي أبو بكر بن العربي وهذا بديع جدًا. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 5):

قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر (1) وَمَا أَدْرَاكَ ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ ألف شهر (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أمر (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفجر (5)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
لما ذكر الله سبحانه وتعالى كتابه في هذا الذكر العربي المعجز، ذكر إنزاله مستحضرًا في كل قلب، كان ذلك مغنيًا عن إعادته بصريح اسمه، فكان متى أضمره علمه المخاطب بما في السياق من القرائن الدالة عليه، وبما له في القلب من العظمة وفي الذهن من الحضور لاسيما في هذه السورة لافتتاح العلق بالأمر بقراءته، وختمها بالصلاة التي هي أعظم أركانها، فكانت دلالتها عليه دلالة هي في غاية الوضوح، فكان كأنه قال: واقترب بقراءة القرآن في الصلاة، فكان إضماره أدل على العظمة الباهرة من إظهاره، لدلالة الإضمار على أنه ما تم شيء ينزل غيره فهو بحيث لا يحتاج إلى التصريح به، قال مفخمًا له بأمور: إضماره، وإسناد إنزاله إليه، وجعل ذلك في مظهر العظمة، وتعظيم وقت إنزاله المتضمن لعظمة البلد الذي أنزل فيه- على قول الأكثر، والنبي الذي أنزل عليه، مؤكدًا لأجل ما لهم من الإنكار، {إنا} أي لما لنا من العظمة {أنزلناه} أي هذا الذكر كله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا مرتبًا هذا الترتيب الذي جمع الله الأمة المعصومة عليه، وهو الموجود الآن، وكذا كان إنزال أول نجم منه، وهو أول السورة الماضية إنزالًا مصدقًا لأن عظمته من عظمتنا بما له من الإعجاز في نظمه، ومن تضاؤل القوى عن الإحاطة بعلمه، وأول ما أنزل منه صدرها إلى خمس آيات منها آخرها {ما لم يعلم} على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مجاور في هذا الشهر الشريف بجبل حراء من جبال مكة المشرفة، ثم صار ينزل مفرقًا بحسب الوقائع حتى تم في ثلاث وعشرين سنة، وكلما نزل منه نجم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بترتيبه في سورته عن أمر الله تعالى حتى تم في السور على ما هو عليه الآن ما هو عليه في بيت العزة.
ولما عظمه بما ذكر، زاده عظمًا بالوقت الذي اختار إنزاله فيه ليكون طالعه سعيدًا لما كان أثره حميدًا فقال: {في ليلة القدر} أي الليلة التي لها قدر عظيم وشرف كبير، والأعمال فيها ذات قدر وشرف، فكانت بذلك كأنها مختصة بالقدر فلا قدر لغيرها.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: ورد تعريفًا بإنزال ما تقدم الأمر بقراءته لما قدمت الإشارة إلى عظيم أمر الكتب، وأن السلوك إليه سبحانه إنما هو من ذلك الباب، أعلم سبحانه وتعالى بليلة إنزاله وعرفنا بقدرها لنعتمدها في مظان دعائنا وتعلق رجائنا ونبحث في الاجتهاد في العمل لعلنا نوافقها وهي كالساعة في يوم الجمعة في إبهام أمرها مع جليل قدرها ومن قبيل الصلاة الوسطى، ولله سبحانه في إخفاء ذلك أعظم رحمة، وكان في التعريف بعظيم قدر هذه الليلة التعريف بجلالة المنزل فيها، فصارت سورة القدر من تمام ما تقدم ووضح اتصالها- انتهى.
ولما علم من السياق تعظيمها بعظمة ما أنزل فيها وبالتعبير عنها بهذا، قال مؤكدًا لذلك التعظيم حثًا على الاجتهاد في إحيائها لأن للإنسان من الكسل والتداعي إلى البطالة ما يزهده في ذلك: {وما أدراك} أي وأي شيء أعلمك وأنت شديد التفحص {ما ليلة القدر} أي لم تبلغ درايتك وأنت أعلم الناس غاية فضلها ومنتهى على قدرها على ما لك من سعة العلم وإحاطة الفكر وعظيم المواهب.
ولما ثبتت عظمتها بالتنبيه على أنها أهل لأن يسأل عن خصائصها، قال مستأنفًا: {ليلة القدر} أي التي خصصناها بإنزالنا له فيها {خير من ألف شهر} أي خالية عنها أو العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وذلك ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، قالوا: وهي مدة ملك بني أمية سواء، وتسميتها بذلك لشرفها ولعظيم قدرها، أو لأنه يفصل فيها من أم الكتاب مقادير الأمور، فيكتب فيها عن الله حكم ما يكون من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل، من قولهم: قدر الله على هذا الأمر يقدره قدرًا، أي قضاه، وهي الليلة المرادة في سورة الدخان بقوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} [الدخان: 4] وذكر الألف إما للمبالغة بنهاية مراتب العدد ليكون أبلغ من السبعين في تعظيمها أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شخصًا من مؤمني بني إسرائيل لبس السلاح مجاهدًا في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون منه فتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطاهم الله سبحانه وتعالى ليلة من قامها كان خيرًا من ذلك، وأبهمها في العشر الأخير من شهر رمضان في قول الجمهور على ما صح من الأحاديث ليجتهدوا في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة والصلاة الوسطى في الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في سائر الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وقيام الساعة في الأوقات ليجتهدوا في كل لحظة حذرًا من قيامها، والسر في ذلك أن النفيس لا يوصل إليه إلا باجتهاد عظيم إظهارًا لنفاسته وإعظامًا للرغبة فيه وإيذانًا بالسرور به، لكن جعل السورة ثلاثين كلمة سواء يرجح أنهم السابعة والعشرون التي وازاها قوله هي- كما نقل عن أبي بكر الوراق.
ولما عظمها، ذكر وجه العظم ليكون إعلامًا بعد إبهام وهو أوقع في النفس فقال مستأنفًا: {تنزل} أي تنزلًا متدرجًا هو أصلًا على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء {الملائكة} أي هذ النوع العظيم الذي هو خير كله {والروح} أي جبريل عليه الصلاة والسلام، خصه بيانًا لفضله أو هو مع أشراف الملائكة أو هو خلق أكبر من الملائكة أو هو أمر تسكن إليه نفوس العارفين ويحصل به اليمن والبركة {فيها} وأشار إلى خفاء ذلك التنزل بإسقاط تاء التنزل مع ما تقدم من الإشارات، ودل على زيادة البركة في ذلك التنزل وعظيم طاعة الملائكة بقوله: {بإذن ربهم} أي بعلم المحسن إليهم المربي لهم وتمكينه، وتنزلهم إلى الأرض أو السماء الدنيا أو تقربهم من المؤمنين، متبدئ تنزلهم {من كل أمر} أي الأمور الكلية التي يفرقون فيها بإذن الله تفاصيل الأمور التي يريدها سبحانه في ذلك العام في أوقاتها من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل، أو من أجل تقدير كل شيء يكون في تلك السنة، وعبر عن الشيء بالأمر إعلامًا بأنهم لا يفعلون شيئًا إلاّ بأمره.
ولما ذكر سبحانه هذه الفضائل، كانت النتيجة أنها متصفة بالسلامة التامة كاتصاف الجنة- التي هي سببها- بها، فكان ذلك أدل على عظمتها فقال تعالى: {سلام} أي عظيم جدًا {هي} أي ما هي إلا سلامة وخير ليس فيها شر، ولا يزال ذلك السلام والبركة فيها {حتى} أي إلى {مطلع الفجر} أي طلوعه ووقت طلوعه وموضع طلوعه، لا يكون فيه شر كما في غير ليلتها، فلا تطلع الشمس في صبيحتها بين قرني الشيطان إن شاء الله تعالى، وذلك سر قراءة الكسائي بالكسر- والله أعلم، واختير التعبير بـ: (حتى) دون (إلى) ليفهم أن لما بعدها حكم ما قبلها، فيكون المطلع في حكم الليلة، وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن جبريل عليه الصلاة والسلام ينزل ليلة القدر في كوكبة من الملائكة ومعه لواء أخضر يركزه فوق الكعبة، ثم يفرق الملائكة في الناس حتى يسلموا على كل قائم وقاعد وذاكر وراكع وساجد إلى أن يطلع الفجر، فمن تأمل هذه السورة علم منه ما للقرآن من العظمة فأقبل عليه بكليته يتلوه حق تلاوته كما أمر في سورة (اقرأ) فأمن من غير شك من هول يوم الدين المذكور في التين، ومن تلاوته بحقه تعظيم ليلة القدر لما ذكر من شرفها، وذلك جاز إلى الحرص عليها في كل السنة، فإن لم يكن ففي كل رمضان، فإن لم يكن ففي جميع ليالي العشر الأخيرة منه، ليكون له من الأعمال بسبب فضلها ومضاعفة العمل فيها ما لا يحصيه إلى الله تعالى بحيث إنه ربما يكون خيرًا من عمل من اجتهد فيما قبلنا ألف سنة، ورجوع آخرها بكون هذا التنزل في ليلة القدر على أولها في غاية الوضوح لأن أعظم السلام فيها نزول القرآن، ولعل كونها ثلاثين كلمة إشارة إلى إن خلافة النبوة التي هي ثلاثون سنة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم التي آخرها يوم نزل أمير المؤمنين الحسن بن علي- رضى الله عنهما- فيه عن الخلافة لمعاوية رضى الله عنه في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين هي كليلة القدر في الزمان، وما بعدها كليالي العام فيه الفاضل وغيره، وتلك المدة كانت لخمسة خلفاء أشارت إليهم حروف الكلمة الأخير منها، فالألف لأبي بكر رضى الله عنه وهي في غاية المناسبة له، فإن الربانيين قالوا: هو اسم للقائم المحيط الأعلى الغائب عن مقامه لكنها الحاضر معه وجودًا كالروح، وكذا كان رضى الله عنه حاضرًا مع الأمة بوجوده وهو غائب عنهم بتوجهه، وجميع قلبه إنما هو مع الله عز وجل، واللام لعمر- رضى الله عنه- وهي شديدة المناسبة له فإنها صلة بين باطن الألف وظاهر الميم الذي هو لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه للتمام، وكذلك فعل- وصل بين السيريتن وصلًا تامًا بحيث وصل ضعف الصديق في بدنه وقوته في أمر الله بقوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتظم به الأمر انتظامًا لا مزيد عليه، والفاء لعثمان رضي الله تعالى عنه وهو إشارة لبدء خلوص منته لتنقل بمزيد أو نقص، وآيته الفطرة الأولى، وآيتها المحسوسة اللبن أول خروجه إذا أصابه أقل شيء من الهواء الممدود غيّره، وكذلك الفطرة إذا أصابها أقل شيء من الهوى المقصود غيّرها، وكذا كان حاله رضي الله تعالى عنه، حصلت له آفات الإحسان إلى أقاربه الذي قاده إليه قويم فطرته حتى حصلت له الآفات الكبار- رضى الله عنه ـ، والجيم لعلي رضى الله عنه وهو إشارة إلى الجمع، والإجمال الذي يحصل عنده عنا وهو أنسب الأمور له رضي الله تعالى عنه فإنه حصل به الجمع بعد الافتراق العظيم بقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه شهيدًا مظلومًا، وحصل به الإجمال لكن لم يتم التفصيل بسبب ما حصل من العناد، والراء إشارة إلى الحسن رضي الله تعالى عنه وهي تطوير وتصيير وتربية، وهي لكل مرب مثل زوج المرأة وسيد العبد، ولذلك فعل رضى الله عنه لما رأى الملك يهلك بقتل المسلمين رباه بنزوله عن الأمر لمعاوية، فكان كالسيد أذن لعبده وربي أمره به، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيدًا- رضى الله عنهم أجمعين، والله أعلم بالصواب. اهـ.